نوفمبر 27 2005

هل للرأي العام أهميّة في الشرق الأوسط؟

نشرت بواسطة الساعة 12:36 م تحت فئة مقالاتي -

* داود كتّاب -  الحياة – 20/11/2005

النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي مثير للاستغراب، فقد أُطيل أمده واستمر لفترة طويلة إلى درجة فقد فيها الرأي العام سلطته في التأثير على السياسة أو عملية صنع القرار على مستوى القادة. بغضّ النظر عمّا يريده الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي، فإن ما يحصل على الأرض وفي دوائر صنع القرار في تل أبيب ورام اللة نادراً ما يعكس الرأي العام.

فلو كان للرأي العام أيّة أهميّة لكنّا قد حللنا النزاع منذ أمد بعيد. فأحد الحقائق المثبّتة علمياً هي أن غالبيّة الفلسطينيين والإسرائيليين يعرفون بالضبط شكل الحل النهائي: دولتان ذاتا سيادة على حدود عام 1967 تقريباً مع بعض التعديلات المتعلّقة بالكتل الاستيطانية الكبرى، وعودة عدد محدود من اللاجئين لإضفاء قيمة رمزيّة، وحلّ عمليّ لقضيّة القدس.

لكن الرأي العام لا أهميّة له. أنظر فقط إلى هؤلاء الضحايا الذين حاولوا الاستجابة للرأي العام. عدد كبير من ممثلي منظمة التحرير الفلسطينيّة الذين رغبوا في أن يعكسوا الرأي العام عن طريق بدء الحوار مع إسرائيليين اغتيلوا. رئيس وزراء إسرائيلي له شعبيّة كان يقوم بما أرادته غالبيّة الإسرائيليين قُتل كذلك. في كلا الحالتين لم يكن القاتل من الطرف الآخر وإنما من الشعب نفسه. كان على ياسر عرفات ونظرائه الإسرائيليين أن يتفاوضوا سرّاً قبل الوصول إلى إتفاقيّات أوسلو. ياسر عرفات نفسه أخبر الرئيس كلنتون أنه سوف يُقتل إذا وافق على الأفكار التي طرحها باراك. أما شارون، فقد اضطر لإحاطة نفسه بعدد مبالغ فيه من الحرّاس الشخصيين لحماية نفسه من الإغتيال عندما كان يطبّق ما أظهرت الإستطلاعات أنه قرار شعبي للإنسحاب من غزّة. كما لم يستطع فعل أيّ شيء منذ ذلك الحين، رغم أن الإستطلاعات تُظهر أن أيّة إنسحابات إضافيّة في الضفّة الغربية سوف تحصل على دعم غالبيّة الإسرائيليين.

أسباب انعدام فاعليّة الرأي العام متنوّعة. فبالنسبة للقضايا التي تنطوي على مصالح وطنية واستراتيجية عليا يعطي الجمهور من هم في السلطة مجالاً أوسع للتحرّك. فالإنسان العادي في الشرق الأوسط يشعر غالباً أن من هم في السلطة يملكون قدراً من المعلومات تحت تصرّفهم يعطيهم القدرة على اتخاذ القرار الأفضل للشعب. الشعب قد يناقش السلطة حول مختلف القضــايا تقريـباّ باستثناء المواضيع التي تتعلّق بالأمن والمواضيع ذات الأهميّة الإستراتيجيّة الوطنيّة. القادة تُترك لهم حريّة القرار في هذه النواحي ونادراً ما تتم مساءلتهم.

ولسوء الحظ يستغلّ القادة موقف الجمهور هذا، وينفّذون قرارات تعكس ما يريدونه، مستفيدين من أن الجمهور نادراً ما يحاسبهم حول قضايا تتعلّق بالأمن.

والقضيّة أكثر وضوحاً في حالة إسرائيل: كدولة ناشئة تأسست في وجه الكثير من الصعوبات، فإن لدى الجمهور الإسرائيلي إيماناً مبالغاً فيه بمؤسساته الأمنيّة. وبما أن معظم القادة السياسيين الإسرائيليين جاءوا من المؤسسة العسكريّة فإن الجمهور لا يمانع في تقديم مساندة عمياء لكل ما يقوله قادته في القضايا المتعلّقة بالأمن. ورغم أن الجمهور الإسرائيلي مستعد لمساءلة أيّ قرار آخر إلا أنه يبدو أنه مجمع على ممارسة الصمت بشأن القضايا الإستراتيجية المتعلقة بالأمور الأمنيّة.

قبل أن أضع أهميّة الرأي العام نهائياً على الرف بما في ذلك ما يتعلق بالأمور الأمنية، دعوني أتراجع جزئيّاً عن صرفي النظر عنه تماماً. في المجتمعات العاديّة، عندما يتحدّث أحدهم عن الرأي العام فهو يتحدّث عن قضايا تحوز على دعم 55 أو لنقل 60 في المئة من الجمهور. لكن في الشرق الأوسط، وحتى تكون للرأي العام أهميّة، يجب أن يزيد عن أغلبيّة ثلثي الجمهور أو أكثر.

وعندما احتجّت غالبية الإسرائيليين ضد مجازر صبرا وشاتيلا، إضطرّت الحكومة إلى الإستجابة. وعندما عارضت الغالبيّة الساحقة من الفلسطينيين إطلاق صواريخ القسّام بعد الإنفجار الذي وقع أثناء مهرجان لحماس، تراجع قادة الحركة الإسلاميّة بقوّة وأعلنوا من طرف واحد وقفاً للهجمات.

إذا لم تكن هناك أهميّة للرأي العام السائد فما الذي يهمّ؟ هناك طريقان لإجراء تغيير في الشرق الأوسط: إمّا بذل جهد للوصول إلى الغالبية الساحقة للرأي العام في مجتمع ما، وهو أمر يتطلّب من الناشطين تخفيض سقف توقّعاتهم والموافقة على القاسم المشترك الذي ينتج عنه دعم جماهيري ساحق. أما الطريق الآخر فهو الضغط الخارجي على القادة. وقد شهدنا ذلك في حالة الإنسحاب من غزّة، عندما اضطرّ شارون تحت الضغط الدولي للتحرك قدماً باتجاه السلام (في إطار خريطة الطريق) وإعداد خطّة سياسيّة حازت على موافقة البيت الأبيض رغم أنها لم تحصل على مساندة ساحقة داخل إسرائيل.

التغيير في نزاع الشرق الأوسط لن يحصل ببساطة من خلال تحسُّن بسيط في الرأي العام. فقط عندما تجتمع عناصر التغيير الأساسية ويحصل انتقال غامر في الرأي العام، يمكننا توقُّع تغيّر له أهميته في هذا النزاع الذي طال أمده.

* داود كتّاب صحافي فلسطيني ومدير معهد الإعلام العصري في جامعة القدس برام الله. ينشر هذا المقال بالتعاون مع خدمة Common Ground الإخبارية.

لا تعليقات حاليا

خدمة Rss التعليقات

أرسل تعليق

يجب عليك الدخول لإرسال تعليق .