أكتوبر 12 2009

دروس من فضيحة غولدستون

بقلم داود كتاب

إن رد الفعل السياسي الغاضب والعلني على القرار الذي اتخذته القيادة الفلسطينية لتأجيل المناقشات في تقرير غولدستون حول جرائم الحرب، يتطلب نظرة واقعية إلى الأسباب والدروس التي ينبغي أن نتعلمها لتجنب التكرار.

وجاء الغضب من الفلسطينيين، وغير الفلسطينيين، ومن بينهم مؤيدون للقضية الفلسطينية في أنحاء العالم.

وسائل الإعلام العربية، وخاصة قناة الجزيرة، خصصت ساعات وساعات لإعطاء مساحة لهجوم طنان ضد محمود عباس وقيادته، فاتـُـهم بـ “الخائن”ØŒ Ùˆ”الذي باع دماء الفلسطينيين في غزة”ØŒ وقد عمت المظاهرات المناهضة له في غزة وحتى رام الله، وصدر العديد من العرائض والتصريحات العلنية والرسائل الإلكترونية على شبكة الإنترنت.

ورغم أن الرئيس الفلسطيني شكل لجنة لمنظمة التحرير الفلسطينية يرأسها عضو من خارج حركة فتح للتحقيق في ما حدث، إلا أن هناك عددا من الحقائق التي لا جدال فيها،
فكان ما لا يقـلّ عن 33 من بين 45 عضوا من أعضاء مجلس حقوق الإنسان على استعداد للتصويت لصالح تحويل التقرير إلى مجلس الأمن الدولي.

والأمر الذي لا جدال فيه أيضاً هو أنه بالرغم من أن الوفد الفلسطيني المراقب ليس له الحق في التصويت، فإن دعمه الواضح لهذا التأجيل كان المفتاح لقرار مندوبي التصويت. والقادة العرب والمسلمين الذين كانوا تحت ضغط الولايات المتحدة قالوا علانية أنهم لا يستطيعون أن يكونوا فلسطينيين أكثر من القادة الفلسطينيين أنفسهم.

ظهر المزيد من التفاصيل الكثيرة الآن حول الضغوط الأمريكية والإسرائيلية وتكتيكات لـيّ الذراع، فالرئيس الأمريكي باراك أوباما اتصل بالرئيس عباس، ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون استخدمت الدبلوماسية من خلال القنصلية الأميركية في القدس، وكل هذا على ما يبدو جاء نتيجة لمطلب الإسرائيليين وتهديدهم بعدم العودة إلى المفاوضات.

وتحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية علانية عن الضغوط الاقتصادية القاسية والمهددة في حال لم يتم تأجيل تقرير غولدستون. وعلى ما يبدو فقد تعرض الفلسطينيون للابتزاز مع احتمال حرمانهم من منح ترخيص لشركة ثانية للهاتف الخليوي، الأمر الذي كان سيكلف الحكومة الفلسطينية مبلغ 300 مليون دولار كرسوم عقابية.

إن القيادة الفلسطينية ضبطت تماماً على حين غرة، وأخفقت في توفير المبررات المرضية. والمحاولات القائلة بأن تقرير جرائم الحرب يورط حماس، وأن منظمة التحرير عضو غير مصوت فشلت في إقناع أحد كمبرر للموقف الفلسطيني.

كلما طال رفض القيادة الفلسطينية في تحمل المسؤولية كلما استمرت الهجمات.

وحتى أن السمعة العالية التي اكتسبها عباس من المؤتمر السادس لحركة فتح وانعقاد المجلس المركزي الفلسطيني، الذي انتخب الموالين لعباس كأعضاء اللجنة التنفيذية، جميعها فشلت في حماية الزعيم الفلسطيني من الهجمات الغاضبة العلنية.

إن فهم بعض الظروف المحيطة بهذه الفضيحة يمكن أن يساعد على وضع الأمور في سياقها. لقد تركت النتائج السلبية للقمة الثلاثية في نيويورك، بعد أشهر من التوقعات العالية من إدارة أوباما، خيبة أمل ويأس من اختراق دبلوماسي تقوده الولايات المتحدة.

مع زيادة خيبة الأمل برمتها من العملية السياسية، فإن الشعور العارم أن الخيار الوحيد المتبقي لممارسة ضغط حقيقي على المحتلين الإسرائيليين يكمن في معاقبتهم على جرائم الحرب، وكان تقرير غولدستون هبة سماوية، أثبت ارتباك الإسرائيليين تجاهه أن التهديد الفعلي لاتهامات جرائم الحرب قد يكون بمثابة ” كعب أخيل” بالنسبة لهم، وإصابة في مقتل.

هناك مشكلة أخرى ظرفية وهي الجدال الحاصل حول ترخيص شركة “الوطنية” الخلوية. منذ أكثر من عامين فإن السلطة الفلسطينية، مع مساعدة توني بلير وآخرين في اللجنة الرباعية، تضغط على إسرائيل للإفراج عن موجات الأثير التي من شأنها أن تسمح لشركة الهاتف المحمول الثانية في العمل.

عشية مناقشات غولدستون، فإن الإسرائيليين قد صرحوا علانية بأن الترخيص للشركة الوطنية مرهون بموقف السلطة الفلسطينية بشأن التقرير.

وسواء إذا كان هذا هو الدافع وراء القرار الفلسطيني أم لا، فإن مظهر الخدمة مقابل الخدمة قد أصبح غذاءً للمناقشات، إلى درجة أنه حتى روبرت فالك، ممثل الأمم المتحدة الخاص لفلسطين، ذكر هذا السبب، على الرغم أنه كان غير قادر على تقديم دليل على هذا الادعاء عندما تحداه أحد الصحفيين.

حتى المؤيدون للسلطة الفلسطينية يعترفون أن الانطباع الذي تركه هذا الموضوع قام بتغذية الهجوم الغاضب على السلطة الفلسطينيين ورئيسها.

إذن، ما هي الدروس التي يجب على السلطة الفلسطينية أن تستمدها منها؟

بداية، فإنه من الواضح أن الرئيس عباس يعتمد على مستشاريه المقربين أكثر من المؤسسات القانونية التي تمثل الفلسطينيين، أو على الأقل حركة فتح الحاكمة. لم يتم الحصول على قرار من لجنة فتح المركزية ولا اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وتفيد الأخبار المتسربة من المجموعتين بأن كل ما جرى من مناقشات داخل هذه المؤسسات لا تدعم تأجيل مناقشة التقرير. حتى إدارة رئيس الوزراء سلام فياض، و التي يتكون معظم أعضائها من التكنوقراطيين، كانت معارضة لهذا القرار.

لو كان عباس قد سعى وحصل على موافقة هاتين المؤسستين أو من حكومته، لوفـرّ على نفسه الكثير من الهجمات الشخصية وجعل جميع الأطراف المعنية مسؤولة.

المتابع للوضع الفلسطيني يلاحظ أن عباس وكبار مستشاريه نادرا ما يستخدمون سلاح المعارضة السياسي والشعبي في فلسطين. وفي وقت كانت فيه الحكومة الإسرائيلية تقف أمام الضغط الأميركي الهائل، مؤكدة رفضها لتحقيق التزاماتها الدولية بحجة المعارضة، فإن الفلسطينيين ليسوا معتادين على القول بأن هذا القرار لن تقبله المعارضة أو الشعب.

في هذا السياق، يبدو أن عباس يبالغ في النتائج المترتبة على قوله “لا” للولايات المتحدة أكثر من رئيس الوزراء سلام فياض المدرب في الغرب والمؤيد للولايات المتحدة.

مصادر موثقة أفادت بأن فياض رفض الضغط الأميركي في هذا الموضوع محتجا بأن الرأي العام الفلسطيني لن يقبل ذلك بعدما حدث في نيويورك.

إن القيادة الفلسطينية بدل أن تؤخذ على حين غرة، نادراً ما تتعامل سياسيا أو تستخدم الإعلام لصالح قرارها.

فماذا لو أن السلطة الفلسطينية طلبت وحصلت من إسرائيل على إطلاق سراح 1000 سجين من الموقوفين، أو ضمنت وقف هدم المنازل في القدس مقابل دعمها لهذه القرار غير الشعبي. أو ماذا لو أن السلطة سربت أنباء الضغط الأميركي بهدف تهيئة الرأي العام لقرارها المقبل، أو أنها استعملت هذه التسريبات للحصول على الدعم العربي والإسلامي حتى تتجنب فقدان ماء الوجه أو الضغط غير المحتمل.

إن السلطة الفلسطينية تحتاج كذلك إلى فهم أفضل لمشاعر الناس. وكان جـس نبض احتمالية اتخاذ هذا القرار سيساعد بإثارة ردود فعل تكفي لتنبيه القيادة من النتائج المحتملة.

أخيراً، كما تعلمنا من فضائح كثيرة لموظفين رسميين كبار في العالم، فإن محاولة إخفاء المشكلة تعود بأضرار أكبر من أضرار المشكلة ذاتها.

لقد أحسن الرئيس الفلسطيني صنعاً لتعيينه لجنة لتقصي الحقائق ولكن هذا غير كافٍ، فهو بحاجة إلى أن يخاطب شعبه وأن يتحمل مسؤولية أفعاله وأن يأخذ قرارات صعبة، بما فيها أن يطرد بعض مستشاريه، وبعدها أن يتعهد بتقريب آذانه من أصوات الشعب قبل أن يتخذ قرارا بمثل هذه الخطورة.

لا تعليقات حاليا

خدمة Rss التعليقات

أرسل تعليق

يجب عليك الدخول لإرسال تعليق .