أكتوبر 06 2006

دروس من حرب لبنان

نشرت بواسطة الساعة 3:59 ص تحت فئة مقالاتي -

في الحروب لا يكفي التفوق في ساحات القتال لإحراز النصر، بل لابد وأن يتم تسجيل ذلك النصر في أذهان الناس أيضاً. لذا، فعلى الرغم من أن حزب الله لم يحقق نصراً حاسماً في حربه الحالية ضد إسرائيل، بتمكنه من الاحتفاظ بقدرته على الصمود في وجه القوة العاتية التي يتمتع بها جيش إسرائيل، إلا أنه استطاع أن يأسر مخيلة العرب باستعادة الكرامة المفقودة كما فعل الجيش المصري حين عبر قناة السويس في عام 1973. ولقد كانت الكرامة المستردة من العناصر الأساسية التي قادت الرئيس أنور السادات في النهاية إلى اتخاذ قراره بالذهاب إلى القدس وإعادة شبه جزيرة سيناء بالكامل إلى أرض مصر.

وعلى الرغم من الثمن الفادح الذي تكبده الشعب اللبناني على الصعيد الإنساني والاقتصادي، فضلاً عن البنية الأساسية التي دمرت، إلا أن حزب الله أثبت للإسرائيليين على نحو لا يقبل الجدال أنهم لم يعد بوسعهم أن يعتبروا تفوقهم العسكري أمراً مسلماً به. فلقد فضحت هذه الحرب الحدود التي تقيد القوة العسكرية. فضلاً عن ذلك، فقد بات واضحاً لجميع الأطراف مدى جنون الحرب، وبمجرد أن ينتهي القتال الدائر حالياً، فمن المرجح أن يتحرى كل من الطرفين الحذر الشديد في تصرفاته، خشية أن تقود هذه التصرفات شعبه وبلاده إلى الحرب من جديد.

إن النتائج التي ستنتهي إليها هذه الحرب من المرجح أن تؤدي إلى تغيير الأساليب التي يتعامل بها المجتمع الدولي وإسرائيل مع الطموحات الوطنية الأساسية للشعوب العربية. وعلى ذلك فإن احتلال الأرض العربية، واحتجاز السجناء إلى ما لا نهاية، لن يشكل بعد الآن مصدر قوة، بل سيتحول إلى عبء رهيب.

لقد كان التفكير التقليدي في الشرق الأوسط مبنياً إلى حد كبير على قوة إسرائيل العسكرية الساحقة، فضلاً عن الفرقة السائدة بين القادة العرب وافتقارهم إلى الهدف. إلا أن القوة الأسطورية لأعتى جيش في المنطقة انكسرت خلال مدة تقل عن الشهرين، وظهر حسن نصر الله زعيم حزب الله بمظهر القائد الثابت العاقد العزم، وذلك في تناقض حاد مع السلوك المعتاد لقادة الحكومات العربية.

والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت هذه العزيمة الراسخة قادرة على إحداث نوع من التقدم المفاجئ في عملية السلام، كذلك الذي جلبته الهيبة التي اكتسبها السادات بعد حرب 1973. ومن المفارقات هنا أن هذه الحرب بدلاً من إضعاف لبنان باتت تشكل نصراً واضحاً لوحدة لبنان وإرادته المستقلة.

ليس من الواضح الآن ما إذا كانت الحرب في لبنان قد تساعد القضية الفلسطينية أو تلحق بها المزيد من الضرر. ذلك أن أغلب الاهتمام الإعلامي قد تحول باتجاه لبنان، وأصبحت إسرائيل مطلقة اليد في مواصلة الضغط على الفلسطينيين دون إثارة أي احتاج دولي. فالفلسطينيون يُـقتلون كل يوم، ليس في غزة فقط بل وأيضاً في نابلس بالضفة الغربية. حيث تجاوز عدد القتلى بين الفلسطينيين ما يزيد على المائة والسبعين منذ اندلاع أعمال العنف في شهر يونيو/حزيران الماضي.

مع كل ما سبق، لم تمر الصلة بين الحربين دون أن يلحظها أحد. ففي الولايات المتحدة يرى الرئيس جورج دبليو بوش ووزيرة الخارجية كونداليزا رايس ، تماماً كما يرى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ، أن المشكلتين مرتبطتان. والحقيقة أن الأزمة التي يشهدها لبنان وقطاع غزة جعلت المجتمع الدولي يدرك ضرورة حل قضيتين أزليتين ـ السجناء العرب في إسرائيل، والسياسة أحادية الجانب التي تنتهجها إسرائيل ـ إن كانت لديه الرغبة في إحياء أي أملٍ باقٍ في العودة إلى عملية السلام.

ومع علمنا بأن اندلاع الأزمتين الأخيرتين كان نتيجة لاختطاف جنود إسرائيليين بغرض مبادلتهم بسجناء عرب، فلابد وأن تكون إسرائيل قد أدركت الآن أن احتجاز السجناء العرب إلى ما لا نهاية في سجونها لن يسفر إلا عن المزيد من العنف. ويبدو أن مستشار الأمن القومي الإسرائيلي جيورا إيلاند قد أدرك هذه الحقيقة حتى قبل اندلاع أعمال العنف، فيقال إنه شهر مايو/أيار نصح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود إولميرت بضرورة تخلي إسرائيل عن منطقة مزارع شبعة المتنازع عليها، والواقعة على حدودها مع لبنان وسوريا، وإطلاق سراح السجناء اللبنانيين.

لكن أولميرت ، كما ذكرت التقارير، لم ير ضرورة تدعو إلى ذلك. إلا أنه بات من الواضح أن احتجاز ثلاثمائة لبناني وما يقرب من عشرة آلاف فلسطيني ـ دون اتهام أو محاكمة كافة أفراد المجموعة الأولى والعديد من أفراد المجموعة الثانية ـ يشكل مصدراً رئيسياً لانزعاج وإحباط الشعوب العربية في المنطقة.

من بين مجموعات السجناء التي من المرجح أن تستفيد من الموقف الحالي عدد من الأردنيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية. وكان الأردن، على الرغم من كونه حليفاً للولايات المتحدة وأحد البلدين العربيين اللذين عقدا اتفاق سلام مع إسرائيل، قد فشل في تأمين إطلاق سراح سجنائه الذين بلغ عددهم الثلاثين. ولكن بات من المرجح الآن أن يكون أفراد هذه المجموعة أول من يتم إطلاق سراحهم من بين السجناء العرب.

على الرغم من أهمية قضية السجناء إلا أنها لا تشكل جوهر المسألة. ذلك أن القضية الحقيقية تكمن في السياسة أحادية الجانب التي انتهجتها الأحزاب الكبرى التي حكمت إسرائيل. كما أثبت الانسحاب على نحو غير منسق من جنوب لبنان (بقرار من حزب العمل بعد اثنين وعشرين عاماً من الاحتلال) ثم من غزة (بقرار من حزب الليكود بعد تسعة وثلاثين عاماً من الاحتلال) أن أية دولة محتلة لا يجوز لها ببساطة أن تجلي قواتها عن منطقة كانت تحتلها لمدة طويلة ثم تتناسى أية صلة بينها وبين تلك المنطقة. فالسكان الذين ستخلفهم من ورائها لابد وأن تتولى حكومة راسخة ومؤسسات فاعلة إدارة أمورهم. على سبيل المثال، وعلى أبسط المستويات، كان لابد من حصول سكان جنوب لبنان على خرائط الألغام التي زرعتها القوات الإسرائيلية في أرضهم، لكن هذا لم يحدث قط.

إن السياسة الأحادية التي صوتت الغالبية العظمى من الناخبين الإسرائيليين بالموافقة عليها في إطار الانتخابات الأخيرة تقوم على تصور مفاده أن الأمن من الممكن أن يتأتى على نحو ما من خلال إقامة الأسوار والحواجز. لكن صواريخ حزب الله وحماس التي انهمرت على شمال إسرائيل تؤكد حماقة مثل هذا التفكير. وعلى الرغم من عدم استخدام الضفة الغربية كموقع لإطلاق الصواريخ ضد إسرائيل من قبل، فلا يوجد سبب يمنع الفلسطينيين المقيمين هناك من اللجوء إلى مثل هذه الأسلحة إذا ما استمرت الأسوار في الارتفاع والتعمق داخل أراضيهم، وإذا ما أصرت إسرائيل على السياسة المتغطرسة التي تنتهجها في التعامل معهم.

الحقيقة أن الجنود هم أول من يدرك أن القوة العسكرية ذات قيمة محدودة في إرساء أسس السلام الدائم. ولقد آن الأوان أيضاً لكي تدرك القيادات السياسية على الجانبين هذه الحقيقة، وبصورة خاصة القيادات المعتدلة. وبات لزاماً على تلك القيادات أن تتعاون من خلال المفاوضات في التوصل إلى حلول للمشاكل التي لا ينبغي حلها، بل ولن يتسنى حلها باللجوء إلى القوة الوحشية.

داوود كتاب مدير معهد الإعلام الحديث بجامعة القدس، وكان أول من أسس محطة إذاعية تبث على شبكة الإنترنت في العالم العربي، واسم المحطة AmmanNet.

لا تعليقات حاليا

خدمة Rss التعليقات

أرسل تعليق

يجب عليك الدخول لإرسال تعليق .