نوفمبر 04 2014

ثورة أيتام القدس

AlHayat

موقع دوت مصر

بقلم داود كُتّاب

عملت القوى الحاكمة في عالمنا العربي لسنوات عدة على القضاء على هيكل القيادة لأية جماعة معارضة.  ينسب الخبراء الفضل في نجاح العديد من الثورات والاحتجاجات خلال السنوات الثلاث الماضية إلى أنها كانت  ثورات بلا قيادة واضحة ولذلك كانت الحكومات غير قادرة على التنبؤ بها أو توقيفها.

هذا ما يحدث في القدس اليوم بطريقة غريبة.

إن الثلاثماية ألف عربي فلسطيني في المدينة هم أيتام سياسياً وبلا قيادة تماماً.  فصلت إسرائيل جغرافياً فلسطينيي القدس الشرقية عن ارتباطاتهم الطبيعية مع إخوانهم وأخواتهم في المناطق المجاورة، في رام الله وبيت لحم ومختلف أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة.

يتم بانتظام القضاء على القيادة السياسية وحظر أية اتصالات مع القيادة الفلسطينية في رام الله.  هذا الأمر غالباً ما يُرى من خلال قرارات الإسرائيليين السخيفة في حظر مهرجان الدمى للأطفال أو منع إطلاق فيلم عن مشاكل تعاطي المخدرات في المدينة القديمة وذلك لأنه تلقى تمويلاً من الحكومة الفلسطينية في رام الله أو من خلالها.

فلسطينيو القدس هم بلا مواطنة تماماً وعلى عكس بقية الفلسطينيين في الأراضي المحتلة فإنهم لايحملون جواز سفر فلسطيني.  معظمهم يحملون جواز سفر أردني مؤقت دون الحصول على الجنسية الأردنية.  وقد اختار بعضهم التقدم بطلب للحصول على الجنسية الإسرائيلية، وهو خيار متاح لهم بعد أن ضمت إسرائيل بطريقة أحادية الجانب المدينة في عام 1967 ولكن حتى هذا الخيار ليس خياراً متوفراً أوتوماتيكياً لمن يرغب ويوجد عليه شروط مثل التنازل عن جواز السفر الأردني.  

المؤسسات الفلسطينية مثل بيت الشرق والغرفة التجارية تم إغلاقها من قبل الاحتلال ومن خلال استخدام أنظمة الطوارئ.  لم يسمح لأي قائد فلسطيني في الظهور لتمثيل هذا الشعب الفلسطيني المعزول باستثناء الراحل فيصل الحسيني الذي توفي “على ما يبدو” من نوبة قلبية في الكويت في عام 2001.

إن العدد القليل من الفلسطينيين الذين يتولون أي مركز قيادي رمزي مثل أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني أو القادة الدينيين يتم إستدعاؤهم  إلى مركز الشرطة الإسرائيلية للإستجواب أو الاعتقالات لمدة قصيرة أو أحياناً يمنعون من الدخول إلى مسجد الأقصى، ثالث أقدس الحرمين.

نتيجة لهذا القمع الإسرائيلي المنهجي لحرمان الفلسطينيين من أية قيادة محلية معترف بها فإن جماعات بديلة غير معروفة ظهرت وانتشرت لتملأ هذا الفراغ في غياب قيادات حقيقية إلى جانب الهيكلة العشائرية أو العائلية.  يشكل المقدسيون من الخليل إحدى أكبر فئة عشائرية من هذا النوع.  أحياناً تسود عصابات من البلطجيين والمشاغبين في بعض المناطق التي غالباً ما اكتسبوا السيادة من خلال نزاعات في ما بينهم تقرر الأمواس والقوة البدنية من يفوز بها.

وقد شجعت الإعتداءات على الأقصى أيضاً ظهور قيادة جديدة من هذا النوع غير معترف بها.  حزب التحرير هو الآن أحد أقوى الجماعات من حيث العدد والتواجود  في المسجد.  مجموعة أخرى لفتت اهتمام وغضب الإسرائيليين هي الحركة الإسلامية من شمال إسرائيل والتي  يرأسها الشيخ رائد صلاح الذي غالباً ما سجن أو منع لأشهر من دخول مدينة القدس القديمة أو حتى التواجد على مقربة منها.

وقد ظهرت أيضاً في الآونة الأخيرة ظاهرة جديدة نجحت إلى حد ما في الدفاع عن المسجد من محاولات مطالبة المتطرفين اليهود بالسيادة عليه وهي “نساء مسجد الأقصى”.  وقد تم تجسيد نجاحهن في الفيلم الوثائقي لسوسن قاعود الذي بُث على قناة تلفزيون الجزيرة بعنوان “نساء مسجد الأقصى”.  هؤلاء النسوة، اللواتي يشار إليهن بالمرابطات، يعطين ويشاركن في دروس يومياً في باحة المسجد ويرفعن أصواتهن بأناشيد دينية أو شعارات إذا ما حاول المتطرفون اليهود التسلل للصلاة على أرض الأقصى وهو انتهاك واضح للوضع الراهن.

في سلوان وغيرها من الأماكن، انتشرت جماعات محلية في محاولة لتنظيم مجتمعهم دفاعاً عن الهجوم الإسرائيلي الذي يحاول نقلهم خارج منازلهم ومدينتهم وأحيائها بهدف تهويد مدينة القدس. في حين ينكر الإسرائيليون ذلك، فإن محاولات التهويد هذه تتم بالتزامن من قبل الحكومة الإسرائيلية والشرطة والمحاكم والمستوطنين اليهود والجماعات المتطرفة وأعضاء الكنيست بحيث تقوم كل مجموعة بدورها.  وتستخدم الجزرة والعصا لشراء بيوت الناس من خلال صفقات مشبوهة وجعل الحياة جحيماً لأولئك الذين يرفضون بيعها وحماية المستوطنين ومؤيديهم.  يتم رفض تصاريح الإسكان للفلسطينيين بشكل روتيني لأنهم ليسوا جزءً من تخطيط إسكاني.  لم تخطط أحياء القدس الشرقية العربية عمداً مجبرة المواطنين ليبنوا أبنية غير قانونية ومن ثم يعانون من تدمير منازلهم لمخالفتهم قوانين المدينة.  وفي الوقت نفسه يستمر المبنى الذي يدعى “بيت جوناثان” والمؤلف من تسعة طوابق والذي بني بشكل غير قانوني (بموجب القانون الإسرائيلي) في سلوان يستمر في إيواء المستوطنين اليهود المشاكسين دون أية محاولات لتنفيذ العدالة المتساوية.

رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية في عام 1978 أن يعيد الفلسطيني، محمد برقان، شراء بيته.  المحكمة منعت إعطاء برقان الحق في شراء منزله في حي المغاربة المجاور لحارة اليهود لأن الحي اليهودي الذي تم توسيعه لديه الآن “أهمية تاريخية خاصة لليهود، ومن شأنه أن يبطل جميع المطالبات التي يتقدم بها غير اليهود”.  وبالطبع، فإن اليهود يعيشون الآن في جميع أحياء المدينة القديمة وجميع الأحياء الفلسطينية خارج الأسوار.

كثيراً ما برزت القدس باعتبارها قلب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.  المحاولات القمعية الإسرائيلية ضد المدينة وسكانها نجحت في إبعادهم عن القيادة الفلسطينية والعربية ولكن نتيجة لذلك فإن هؤلاء الأيتام الجدد الذين هم بلا قيادة قد وجدوا بوسائلهم الخاصة الخلاقة سبلهم للبقاء والمقاومة. الانتفاضة الصامتة التي تجري اليوم في القدس هي إحدى نتائج السياسة الإسرائيلية من إنكار الحقوق الفلسطينية ورفض إدراج القدس في محادثات جادة.  إن سياسة إسرائيل في خلق وقائع على الأرض وتغيير بهدوء الوضع الراهن في المسجد الأقصى لن تنجح لأنه تحت القمع والضغط يجد الناس طرقهم الخاصة للبقاء. سوف تدرك إسرائيل عاجلا أم أجلا أنها ستواجه صعوبة في التعامل مع القيادات المحلية غير المنظمة أكثر مما لو تعاملت بأمانة ونزاهة مع القيادتين الفلسطينية والأردنية بشأن القدس.

لا تعليقات حاليا

خدمة Rss التعليقات

أرسل تعليق

يجب عليك الدخول لإرسال تعليق .